لطالما اعتُبر الملك رمسيس الثالث من أعظم الفراعنة الذين حكموا مصر خلال العصر الحديث المتأخر. فقد قاد البلاد في أوقات عصيبة، وواجه غزوات ما يعرف بشعوب البحر، ونجح في الحفاظ على وحدة مصر واستقرارها.
ورغم وفاته قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، لا تزال حياته وأحداث عصره تثير اهتمام الباحثين وعشاق التاريخ. في السنوات الأخيرة، كشفت اكتشافات أثرية حديثة في الأردن عن أدلة جديدة يمكن أن تغير نظرتنا إلى حقبة رمسيس الثالث، وعلاقاته الإقليمية، خاصة مع الممالك والمدن التي وجدت في بلاد الشام خلال تلك الفترة.
رمسيس الثالث (حكم من 1186 إلى 1155 قبل الميلاد) هو ثاني فراعنة الأسرة العشرين، ويعتبره المؤرخون آخر الفراعنة العظماء الذين مارسوا سلطة قوية قبل بدء تراجع الدولة الحديثة في مصر.
كان رمسيس الثالث قائداً عسكرياً بارعاً، اشتهر بدحره لغزوات شعوب البحر، وسجّل انتصاراته في معابد ضخمة مثل مدينة هابو، غرب الأقصر.
كما عرف عهده بازدهار اقتصادي نسبي، لكنه شهد أيضاً بوادر أزمات اجتماعية واقتصادية خطيرة، أبرزها أول إضراب عمالي موثق في التاريخ.
خلال العقد الماضي، كثفت بعثات أثرية أوروبية وأردنية التنقيبات في مناطق مختلفة مثل خربة التنور، ذيبان، ووادي الموجب. وخلال هذه الأعمال، تم العثور على نقوش، وأختام، وقطع أثرية تحمل رموزًا فرعونية، بعضها يعود زمنياً إلى فترة حكم رمسيس الثالث.
ولاحقًا في الربع الثاني من عام 2025 في جنوب شرق وادي رم ، تم اسكتشاف نقش هيروغليفي ملكي يعود إلى رمسيس الثالث. هذه الاكتشافات طرحت أسئلة جديدة حول علاقات مصر مع المناطق الواقعة شرق نهر الأردن. هل كانت هناك مستوطنات مصرية؟ أم كانت تلك المناطق ضمن شبكة نفوذ تجاري وعسكري لمصر خلال عهد رمسيس الثالث؟
في عدة مواقع بالأردن، اكتُشفت أختام طينية تحمل خرطوش رمسيس الثالث، مما يدل على امتداد تأثيره إلى تلك المناطق.
وجود هذه الأختام يعكس احتمال وجود مراكز إدارية أو محطات تجارية مصرية، أو على الأقل علاقات تجارية قوية مع القبائل والمدن المحلية.
تم العثور أيضاً على فخار مصري الطراز وأسلحة برونزية تحمل رموزًا مميزة للعصر المصري الحديث. بعض القطع شبيهة بتلك الموجودة في مواقع معروفة في مصر مثل الأقصر والكرنك.
هذا التشابه يدل على وجود تواصل ثقافي وربما عسكري بين مصر والمجتمعات المحلية في الأردن خلال أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
أحد أهم الاكتشافات كان نقشًا هيروغليفياً جزئياً في منطقة "ذيبان"، يعتقد أنه يمثل رسالة نصر أو تحالف.
النص يذكر إله آمون، الذي كان معبوداً رئيسياً للدولة المصرية، ويشير إلى تقديم جزية أو تحالف مع "سيد الجنوب والشمال"، وهو لقب يرتبط بالملوك الفراعنة، منهم رمسيس الثالث.
تشير هذه الأدلة إلى أن النفوذ المصري لم يقتصر فقط على سواحل الشام أو دلتا النيل، بل امتد عبر نهر الأردن إلى عمق الأراضي الأردنية الحالية.
هذا يدعم نظرية أن رمسيس الثالث، بعد مواجهته لشعوب البحر وانتصاره عليهم، أعاد تثبيت النفوذ المصري في المناطق المجاورة، ربما عبر تحالفات أو إنشاء نقاط مراقبة استراتيجية.
لطالما كانت بلاد الشام مسرحاً رئيسياً لصراع النفوذ بين القوى الكبرى القديمة: المصريون، الحيثيون، الآشوريون، والكنعانيون.
وبالنسبة لمصر، كانت هذه الأراضي حيوية باعتبارها ممرًا تجارياً ومصدراً للثروات.
رمسيس الثالث ورث إرث أجداده من الأسرة التاسعة عشرة (مثل رمسيس الثاني) في الاهتمام بهذه المناطق، لكنه واجه تحديات جديدة مع انهيار الممالك الكبرى وانتشار الفوضى بسبب شعوب البحر.
تشير بعض النظريات الحديثة إلى أن بعض قبائل شعوب البحر، بعد فشلهم في غزو مصر، اتجهوا نحو مناطق شرقي الأردن، وأقاموا فيها أو مروا عبرها.
وبالتالي، فإن تحركات رمسيس الثالث العسكرية ربما لم تقتصر على سواحل فلسطين، بل شملت أيضاً مراقبة وتأمين مناطق أعمق داخل بلاد الشام والأردن.
القطع الأثرية المكتشفة تظهر ليس فقط تبادلاً تجارياً بل تأثيراً ثقافياً عميقاً:
رغم أهمية هذه الاكتشافات، إلا أن البحث الأثري يواجه تحديات عدة:
إلى جانب التأثير العسكري والثقافي، تشير بعض التحليلات إلى أن رمسيس الثالث كان يدرك أهمية البعد الاقتصادي في تعزيز نفوذ مصر بالمنطقة. فقد كانت بلاد الشام والأردن تحديدًا تمثل محورًا مهمًا في تجارة المعادن الثمينة مثل النحاس، الذي كانت تحتاجه مصر بشدة لدعم صناعاتها الحربية والمدنية.
تشير دراسات حديثة إلى أن بعض الطرق التجارية القديمة التي كانت تمر عبر صحراء الأردن نحو البحر الأحمر، ثم إلى وادي النيل، كانت تحت حماية مصرية، إما من خلال التحالفات مع القبائل المحلية أو من خلال إنشاء نقاط مراقبة عسكرية صغيرة.
من الاكتشافات المهمة، التي تدعم هذا التصور، الأدلة التي تشير إلى أن منطقة "ذيبان" لعبت دورًا استراتيجيًا كمحطة مهمة على الطرق البرية القديمة. فإلى جانب النقوش الهيروغليفية التي عثر عليها، اكتشف الباحثون أنماطًا معمارية مشابهة لتلك الموجودة في المواقع العسكرية المصرية.
هذا يدعم الفرضية القائلة إن المصريين لم يكونوا مجرد تجار أو زوار عابرين، بل ربما أقاموا تحصينات أو نقاط دعم لوجستي في بعض المناطق الأردنية لمراقبة وتأمين التجارة.
استخدمت البعثات البحثية تقنيات علمية متطورة لتحليل القطع الأثرية، مثل تحليل النظائر لمعرفة مصدر المعادن المستخدمة في تصنيع الأسلحة والأدوات.
أظهرت النتائج أن بعض النحاس المستخدم يشبه إلى حد كبير نحاس منطقة "فينان" جنوب الأردن، مما يلمح إلى أن المصريين كانوا يستوردون المواد الخام من تلك المناطق أو يسيطرون بشكل غير مباشر على إنتاجها.
بعض الباحثين يطرحون فرضيات مثيرة للاهتمام حول طبيعة العلاقات المصرية المحلية، حيث تشير بعض الأدلة إلى أن التفاعل بين المصريين وسكان الأردن لم يكن دائمًا عبر السيطرة العسكرية المباشرة، بل ربما عبر المصاهرة والتحالفات الأسرية مع الزعامات المحلية.
يستند هذا الرأي إلى تحليل رموز وجدت على بعض الخزفيات والتماثيل الصغيرة التي تمزج بين الرمزية المصرية والتقليد الفني المحلي، مما يدل على تداخل ثقافي أعمق مما كان يُعتقد سابقًا.
من الاكتشافات الملفتة أيضًا، العثور على مواقع دفن ذات طابع مصري في بعض مناطق جنوب الأردن، حيث وجدت قبور مبنية بنفس الطراز المعروف في مصر الحديثة، باستخدام الطوب اللبن وترتيب الدفن بنمط يشبه طقوس الدفن الفرعونية، بما في ذلك وضع الأواني الفخارية والتماثيل الصغيرة بجانب المتوفى.
ورغم أن هذه المواقع لا تزال قيد الدراسة المكثفة، إلا أنها تفتح بابًا واسعًا أمام الباحثين لفهم طبيعة التواجد المصري في المنطقة بشكل أدق.
هناك فرضية حديثة تقول إن حملات رمسيس الثالث ضد شعوب البحر لم تقتصر فقط على حماية دلتا النيل وسواحل فلسطين، بل شملت أيضاً ملاحقة القبائل التي تحركت باتجاه عمق بلاد الشام وشرق الأردن.
تاريخيًا، كانت السيطرة على الممرات والطرق التجارية بين مصر وبلاد الرافدين هدفًا استراتيجيًا لأي قوة إقليمية، ويبدو أن رمسيس الثالث كان حريصًا على ضمان أن تظل تلك الطرق تحت تأثير مصر، سواء مباشرة أو عبر تحالفات.
ما يظهر اليوم بفضل هذه الاكتشافات هو صورة أكثر تعقيدًا لتاريخ العلاقات بين مصر وشرق الأردن. فلم يكن الأردن مجرد منطقة عبور أو ساحة معركة عابرة، بل يبدو أنه كان جزءًا من شبكة النفوذ السياسي والاقتصادي التي حاول رمسيس الثالث إعادة إحيائها بعد موجة الفوضى الإقليمية التي أحدثتها شعوب البحر.
التوقعات تشير إلى أن السنوات القادمة ستشهد المزيد من الاكتشافات، خاصة مع استخدام تقنيات حديثة مثل:
كل هذه الوسائل قد تكشف المزيد عن طبيعة الوجود المصري في الأردن وعلاقة رمسيس الثالث بتلك الأراضي.
مع كل اكتشاف جديد في الأردن، تتضح أبعاد جديدة لشخصية رمسيس الثالث، الذي لم يكن فقط محاربًا بارعًا بل كان أيضًا رجل دولة استراتيجيًا، فهم أهمية المناطق الحدودية وطرق التجارة الحيوية. لقد أظهرت هذه الاكتشافات أن نفوذ مصر لم يكن محصورًا بنهر النيل، بل امتد ليتغلغل في مناطق كانت تعتبر بعيدة عن السيطرة المباشرة، مما يدل على مرونة السياسة الخارجية المصرية في ذلك العصر. ورغم أن البحث لا يزال في مراحله الأولى، إلا أن المؤشرات تدفعنا إلى إعادة تقييم فهمنا لكيفية تفاعل الحضارات القديمة مع بعضها البعض، وكيف أن الفرعون المصري كان لاعبًا إقليميًا رئيسيًا حتى في أقسى لحظات تاريخ المنطقة. ومع استمرار الحفريات، ربما يكشف لنا الأردن المزيد من أسرار هذه الفترة الحرجة التي شكلت ملامح العالم القديم.
في ضوء الاكتشافات الحديثة في الأردن، يتضح أن رمسيس الثالث لم يكن ملكاً محصوراً داخل حدود وادي النيل، بل كان قائداً يسعى لبسط نفوذه عبر طرق التجارة والأرض، حتى أعماق الأراضي الواقعة شرق نهر الأردن.
رمسيس الثالث، الذي خلدت معابده ومخطوطاته بطولاته، يظهر لنا اليوم عبر أدلة جديدة كرجل دولة ذكي، استغل كل الوسائل لحماية حدود مصر ومصالحها.
ومع استمرار الحفريات والاكتشافات، قد تتغير نظرتنا أكثر لهذا الفرعون العظيم، ونفهم بشكل أعمق كيف كانت مصر الفرعونية تتفاعل مع جيرانها في أصعب مراحل تاريخها.
بريستول: رحلة عبر التاريخ والثقافة على ضفاف أفون
ياسر السايح
استبعاد الثورات البركانية كسبب لانقراض الديناصورات
شيماء محمود
سوء السلوك العلمي في ازدياد: فهم طبيعته وأسبابه وعواقبه
جمال المصري
خبراء يحذرون من أن كارثة اصطدام الأقمار الصناعية أصبحت حتمية الآن
شيماء محمود
صيغة الدراما الكورية: كيف تعمل الثقافة الشعبية الكورية على تعطيل التسويق الآسيوي
عبد الله المقدسي
قوة التفاوض على الراتب - دليل عملي للتأكد من عدم ترك المال على الطاولة
شيماء محمود
تبدأ أجسام البشر في الانهيار في عمرين محددين للغاية
لينا عشماوي
الفوائد المعرفية لثنائية اللغة
عبد الله المقدسي
السبانخ صديقة جهازك الهضمي: 4 وصفات غير تقليدية لتحضيرها
نهى موسى
"المذنبات المظلمة" الغامضة تأتي في نوعين مختلفين
شيماء محمود